سورة الفاتحة - تفسير تفسير القشيري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفاتحة)


        


الباء في بسم الله حرف التضمين؛ أي بالله ظهرت الحادثات، وبه وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، وحاصل منسوق، من عين وأثر وغبر، وغيرٍ من حجر ومدر، ونجم وشجر، ورسم وطلل، وحكم وعلل- إلا بالحق وجوده، والحق مَلِكُه، ومن الحق بدؤه، وإلى الحق عوده، فبه وَجَدَ من وَحَّد، وبه جحد من الحد، وبه عرف من اعترف، وبه تخلَّف من اقترف.
وقال: {بسم الله} ولم يقل بالله على وجه التبرك بذكر اسمه عند قوم، وللفَرْقِ بين هذا وبين القَسَم عند الآخرين، ولأن الاسم هو المسمى عند العلماء، ولاستصفاء القلوب من العلائق ولاستخلاص الأسرار عن العوائق عند أهل العرفان، ليكون ورود قوله: {الله} على قلبٍ مُنقَّىً وسرٍ مُصَفَّىً. وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكرون من الباء (بره) بأوليائه ومن السين سره مع أصفيائه ومن الميم منته على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببره عرفوا سرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره. وقوم عند سماع بسم الله تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعز وصفه، وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه، فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية أعني بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر في كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة، وإشارات غير معادة، فلذلك نستقصي القول هاهنا وبه الثقة.


قوله جل ذكره: {الحَمْدُ للهِ}.
حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام هاهنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق؛ فجميع المحامد لله سبحانه إمَّا وصفاً وإمَّا خلقاً، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه. والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحَوْله، وحمد الخَلْق له على إنعامه وطوْلِه، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو، واستيجابه لنعوت العز والسمو، فله الوجود (قدرة) القديم، وله الجود الكريم، وله الثبوت الأحدي، والكون الصمدي، والبقاء الأزلي، والبهاء الأبدي، والثناء الديمومي، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطوْل، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد في ملكوته. تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه!

فصل:
عَلمَ الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزَهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حَمِد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله: {الحمد لله} فانتعشوا بعد الذِّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم لكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال. وقالوا:
ولوجهها من وجهها قمر *** ولعينها من عينها كحل
هذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لمَّا سمع حمده لنفسه، ومدحه سبحانه لحقِّه، علم النبي أن تقاصر اللسان أليق به في هذه الحالة فقال: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
داود لو سمعت أذناه قالتَها *** لما ترنّم بالألحان داود
غنت سعاد بصوتها فتخاذلت *** ألحان داود من الخجل

فصل:
وتتفاوت طبقات الحامدين لتباينهم في أحوالهم؛ فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعي صفة نفعِه ودفعِه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم قال جل ذكره: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وكاشف أسرارهم به من خفي غيبه، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده. وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم، وتأمل خصائص القِسَم، و(فرق بين) من يمدحه بعز جلاله وبين من يشكره على وجود أفضاله، كما قال قائلهم:
وما الفقر عن أرض العشيرة ساقنا *** ولكننا جئنا بلقياك نسعد
وقوم حمدوه مُسْتَهْلَكِين عنهم فيما استنطقوا من عبارات تحميده، بما اصطلم أسرارهم من حقائق توحيده، فهم به منه يعبِّرون، ومنه إليه يشيرون، يُجري عليهم أحكام التصريف، وظواهرهم بنعت التفرقة مرعية، وأسرارهم مأخوذه بحكم جمع الجمع، كما قالوا:
بيان بيان الحق أنت بيانه *** وكل معاني الغيب أنت لسانه
قوله جل ذكره: {رَبِّ العَلَمِينَ}.
الرب هو السيد، والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومُنشيها، ومُوجِد الرسوم والديار بما فيها.
ويدل اسم الرب أيضاً على تربية الخلق، فهو مُربٍ نفوس العابدين بالتأييد ومربٍ قلوب الطالبين بالتسديد، ومربٍ أرواح العارفين بالتوحيد، وهو مربٍ الأشباح بوجود النِّعم، ومربٍ الأرواح بشهود الكرم.
ويدل اسم الرب أيضاً على إصلاحه لأمور عباده من ربيت العديم أربه؛ فهو مصلح أمور الزاهدين بجميل رعايته، ومصلح أمور العابدين بحسن كفايته، ومصلح أمور الواجدين بقديم عنايته، أصلح أمور قوم فاستغنوا بعطائه، وأصلح أمور آخرين فاشتاقوا للقائه، وثالث أصلح أمورهم فاستقاموا للقائه، قال قائلهم:
ما دام عزُّك مسعوداً طوالعه *** فلا أبالي أعاش الناس أم فقدوا


اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهي إرادة النعمة وهما اسمان موضوعان للمبالغة ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق.
وقيل الرحمن أشد مبالغة وأتم في الإفادة، وغير الحق سبحانه لا يسمى بالرحمن على الإطلاق، والرحيم ينعت به غيره، وبرحمته عرف العبد أنه الرحمن، ولولا رحمته لما عرف أحد أنه الرحمن، وإذا كانت الرحمة إرادة النعمة، أو نفس النعمة كما هي عند قوم فالنعم في أنفسها مختلفة، ومراتبها متفاوتة فنعمة هي نعمة الأشباح والظواهر، ونعمة هي نعمة الأرواح والسرائر.
وعلى طريقة من فرَّق بينهما فالرحمن خاص الاسم عام المعنى، والرحيم عام الاسم خاص المعنى؛ فلأنه الرحمن رزق الجميع ما فيه راحة ظواهرهم، ولأنه الرحيم وفق المؤمنين لما به حياة سرائرهم، فالرحمن بما روَّح، والرحيم بما لوَّح؛ فالترويح بالمَبَارِّ، والتلويح بالأنوار: والرحمن بكشف تَجَلِّيه والرحيم بلطف تولِّيه، والرحمن بما أولى من الإيمان والرحيم بما أسدى من العرفان، والرحمن بما أعطى من العرفان والرحيم بما تولَّى من الغفران، بل الرحمن بما ينعم به من الغفران والرحيم بما يَمُنُّ به من الرضوان، بل الرحمن بما يكتم به والرحيم بما ينعم به من الرؤية والعيان، بل الرحمن بما يوفق، والرحيم بما تحقق، والتوفيق للمعاملات، والتحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين، والمواصلات للواجدين، والرحمن بما يصنع لهم والرحيم بما يدفع عنهم؛ فالصنع بجميل الرعاية والدفع بحسن العناية.

1 | 2 | 3